ذكريات مُفهرِسة المخطوطات العربية

Rosie Maxton
Stacks
Published in
6 min readMar 7, 2023

--

مكتبة ويلكم، مجموعة المخطوطات العربية، مخطوط رقم 748، صورة ملوّنة، صفحات 118–119
مكتبة ويلكم، مجموعة المخطوطات العربية، مخطوط رقم 748، صفحات 118–119

للنصّ الانجليزي إضغط هنا

كان لقائي الأول مع المخطوطات العربية لدى مكتبة ”ويلكم“ التي تشمل أكثر من ألف مخطوط عربي في شهر آب/ أغسطس سنة 2018 حيث كانت مهمّتي لفترة قصيرة مراجعة الفهرسة السابقة لبعض المخطوطات في مجموعتها. اليوم، بعد مرور أربع سنوات ومطالعتي لمئات المخطوطات، أشعر بالفخر بأنّي قد ساهمت في فهرسة وتصنيف هذه الموّاد الثمينة المتنوّعة التي لم تزل تثير دهشتي. في ما يلي سأشارككم بعض الأفكار والتأمّلات حول فهرستي لمجموعة المخطوطات بمكتبة ويلكم خلال السنوات الأربع الماضية.

الطبّ عبر العصور

كان عملي في البداية لمكتبة ويلكم يشمل مراجعة الفهرسة التي نُشرت على شبكة الإنترنت في الفهرس الإلكتروني ”فهرست“. قد تمّت فهرسة هذه المخطوطات، التي كان يبلغ عددها 79 مخطوطاً، باستخدام برنامج XML مبادرة ترميز النص، وهو أداة لتوصيف بيانات النصوص باستخدام اللغة الترميزية

لقد تمّت الفهرسة السابقة بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية وكلية كينجز لندن وكان هناك احتياج لتحديثها تبعاً للمبادئ الجديدة الحاكمة لموقع ”فهرست“. في ضوء اختصاصي باللغة العربية وتجربتي السابقة في العمل مع موقع ”فهرست“، كانت هذه فرصة جيّدة لتطوير خبرتي في مجال علم الإنسانيات الرقمية بالعمل مع مكتبة ويلكم.

كانت أغلب مخطوطات مكتبة ويلكم التي عملتُ عليها خلال هذه الفترة متعلّقةً بالطبّ وفروعه الكثيرة كعلم الأدوية على سبيل المثال. هذه المهمّة أفادتني بالتالي على المستوى التقني لكن أيضاً على مستوى النصوص التي لم أعرفها قبلاً. هذه المخطوطات تمثّل الكثير من التقاليد الفكرية عبر العصور، على سبيل المثال ترجمات مؤلّفات علماء الإغريق مثل جالينوس (ت. 216) وأبقراط (ت. 370) وأعمال ابن سينا (ت. 1037) وابن النفيس (ت. 1288) من العصر العباسي وكتابات الأطباء الروّاد أثناء الحقبة العثمانية مثل حاجي باشا (ت. 1417) وابن سلّوم (ت. 1670). لقد استخدمتُ الصوّر الرقمية للمخطوطات بالإضافة إلى الفهرس المطبوع لألبير زكي إسكندر الذي نُشر باللغة الانجليزية في سنة 1967 بعنوان ”فهرس المخطوطات العربية في الطبّ والعلوم في مكتبة ويلكم الطبية التاريخية “. الجزء الرئيسي من مهمّتي كان البحث عن ملفات السلطة الرقمية للأسماء والأعمال المتمثّلة في المخطوطات. هذه الملفات أصبحت في الفترة الأخيرة جزءاً مهماً من مشاريع الفهرسة لمعالجة الكمية المتزايدة من المعلومات المستخرجة من هذه المخطوطات.

إعادة التفكير في فنّ الفهرسة

كنت قد اعتبرتُ أنّ مجموعة المخطوطات العربية بمكتبة ويلكم متمحورة حول موضوع الطبّ تحديداً. لم أكن أعرف وقتها أنّ المخطوطات المعروضة في فهرس إسكندر (197 مخطوط) ما كانت سوى جزء يسير من المجموعة الضخمة المتوفّرة بمكتبة ويلكم. لكن سرعان ما أدركتُ حجم المجموعة الكبير عندما اُتيحت لي الفرصة للاستمرار في الفهرسة. كانت مهمّتي هذه المرّة مراجعة الفهرسة الرقمية لمجموعة فرعية مكوّنة من سبع وثمانين مخطوطاً قبل نشرها على الإنترنت. هذه المجموعة التي اقتنتها مكتبة ويلكم عام 1985 تُعرف باسم ”مجموعة حداد“ نسبةً إلى مالكها السابق الطبيب والكاتب اللبناني د. سامي ابراهيم حدّاد (ت. 1957). وهذه الفهرسة الرقمية كانت منقولة عن الفهرس المطبوع الذي رتّبه نيكولاي سيريكوف بعنوان ”المخطوطات العربية الطبّية في مكتبة ويلكم : فهرس وصفي لمجموعة حدّاد (رقم 401–487)“ (2005).

إنّ أغلب المخطوطات في مجموعة حدّاد متعلّقة بالطبّ، كما هو واضح في عنوان فهرس سيريكوف. ولكنّ حالما بدأتُ الفهرسة، أدهشني مستوى التفصيل في فهرس سيريكوف وخاصةً بالمقارنة مع فهرس إسكندر السابق الذكر. وذلك أنّ سيريكوف في كتابه يشرح محتويات كل مخطوط بدقة (أقسامها وأجزاءها وفصولها) بالإضافة إلى معلومات كثيرة حول الخصائص المادية لكل مخطوط (مثلاً التجليد والورق والخط وجوانب أخرى من الكوديكولوجي) وأيضاً تقديمه لقائمة مراجع لمساعدة الباحثين. وصف المخطوط الواحد في فهرس سيريكوف يغطّي عادةً عشر صفحات. مع أنّ هذا الفهرس يمثّل عملاً علمياً متفوّقاً، لكنّه كان من غير المفيد تحويل كل هذه البيانات إلى الفهرسة الرقمية خاصةً وأنّ الصور الرقمية للمخطوطات كانت متوفّرة على شبكة الإنترنت.

خلال عملي على مجموعة حدّاد راودتني أسئلة كثيرة بخصوص فهرسة المخطوطات العربية : كيف يمكن تطويع برامج مثل مبادرة ترميز النص بما يتناسب مع الاحتياجات المتغيّرة باستمرار لهذه الفهرسة ؟ ما هي الطريقة المُثلى لاستخدام الفهارس القديمة المطبوعة ؟ وإلى أي حدّ من التفصيل يجب علينا أن نصف كل مخطوط ؟ لقد تناقشتُ وتبادلتُ الآراء والأفكار حول هذه المواضيع مع زملائي في مكتبة ويلكم وفي موقع ”فهرست“. هذه النقاشات ذات أهمية كبيرة ليس فقط في سياق المخطوطات العربية، لكن أيضاً في سياق المخطوطات بأي لغات أخرى.

كشف المجموعة

كان استكمال الفهرسة الرقمية للمخطوطات الموجودة في الفهارس المطبوعة المذكورة أعلاه نقطة تحوّل حيث بدأتُ الفهرسة الرقمية لباقي المخطوطات العربية المصوَّرة والمرفوعة على شبكة الانترنت، وكان عددها وقتئذ 430 مخطوط. الكثير من هذه المخطوطات كانت مفهرسة رقمياً من قبل، لكن جودة البيانات المتوفّرة كانت مختلفة من مخطوط إلى آخر وفي بعض الأحيان كان لا بدّ أن أبدأ العمل عليها من البداية. وفي الحقيقة كان ذلك تطوّراً كبيراً عن عملي السابق، وكنت قبل كل شيء متحمّسة للمهمّة أمامي كشخص يحبّ دراسة المخطوطات. كان الجانب الأكثر إثارةً لاهتمامي خلال هذه الفترة الآداب المختلفة التي رأيتها في المخطوطات. بينما كانت أغلب المخطوطات التي رأيتُها سابقاً متعلّقة بالطب، شملت المخطوطات الجديدة نصوصاً عن علم الفلك والحساب والتعويذات والتاريخ والشعر والقواعد العربية والحديث والفقه إضافةً إلى مصاحف القرآن والأناجيل. هذا التنوّع الكبير في مجموعة مخطوطات ويلكم العربية يعني أنّ الطبّ لم يعد موضوعها الأوحد.

في أيلول/ سبتمبر 2019 ازدادت خبرتي المهنية إذ بدأتُ العمل في قسم التاريخ بجامعة أوكسفورد على المشروع البحثي ”قصص النجاة“ الذي موّله مجلس البحوث الأوروبي. هذا المشروع عالج الترحال والهجرة فيما بين المجتمعات المسيحية الشرقية في الحقبة العثمانية من خلال دراسة إنتاج وتناقل المخطوطات. وشدّد المشروع على الأهمية التاريخية للنصوص الإضافية التي كتبها مالكو ومستخدمو هذه المخطوطات في هوامش صفحاتها عبر العصور. هكذا أدركتُ كيف أنّ البحث في النصوص الإضافية في مخطوطات ويلكم العربية يكشف معلومات عن تاريخ المجموعة. بالاضافة إلى فائدة الخصائص المادية للمخطوطات مثل الخط والتجليد، لقد وجدتُ أنّ نصوصاً مثل توقيع الناسخ وعلامة الملكية ساعدت على معرفة أماكن نشأة المخطوطات في شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى وغيرها. وأيضاً أفادت في تقدير عمر المخطوطات في فترات تاريخية مختلفة بين القرن الخامس عشر والقرن العشرين. وإنّ مبادرة ترميز النص سهّلت عملية تصنيف وتسجيل هذه النصوص الإضافية في الفهرسة الرقمية بطريقة واضحة.

مكتبة ويلكم، مجموعة المخطوطات العربية، مخطوط رقم 836، نصوص ملكية المخطوط، صفحة العنوان
مكتبة ويلكم، مجموعة المخطوطات العربية، مخطوط رقم 836، نصوص ملكية المخطوط، صفحة العنوان

نتيجةً لذلك ظهرت بعض الحقائق العجيبة حول ماضي المخطوطات، على سبيل المثال مخطوط السيرة النبوية الذي أجازه العديد من العلماء في الأزهر (مخطوط عربي رقم 776) والنصوص النحوية المنسوخة في مدرسة في خانية القرم أثناء القرن السابع عشر (مخطوط عربي رقم 809) ونصوص فقه المواريث التي كُتبت في قرية صغيرة في نطاق الدولة الصفوية (مخطوط عربي رقم 821). وتشكّل هذه التفاصيل خليطاً معقّداً غنياً من قصص الأفراد والجماعات عبر الزمان والمكان.

42–43 مكتبة ويلكم، مجموعة المخطوطات العربية، مخطوط رقم 776، إجازات السماع، صفحات
مكتبة ويلكم، مجموعة المخطوطات العربية، مخطوط رقم 776، إجازات السماع، صفحات 42–43

مجموعة ويلكم العربية استمرّت في إثارة الدهشة. على مدى العامين الماضيين وجدتُ مخطوطات مكتوبة جزئياً أو كلياً بلغات أخرى غير اللغة العربية ، مثلاً باللغة الفارسية واللغة التركية العثمانية. لقد فهرستُ هذه المخطوطات بطريقة رقمية بسيطة حتى تنال اهتمام الخبراء في هذه اللغات. في الحقيقة لقد أدركنا تنوّع المجموعة من جهة اللغة والثقافة بشكل أعمق عندما اكتشفنا مؤخراً عدّة مخطوطات منسوخة بالخط الكرشوني (ويعني ذلك اللغة العربية المكتوبة بالحروف السريانية التي كان يستخدمها غالباً المسيحيون في الشرق الأوسط خلال العصر العثماني). وحيث أنني كنت قد بدأت دراسة الدكتوراه في جامعة اوكسفورد كان يجب عليّ تعلُّم قراءة الخط الكرشوني، ولذلك كانت فهرسة المخطوطات الكرشوني فرصةً مميّزة للجمع بين تجربتي المهنية كمُفهرِسة للمخطوطات واهتماماتي البحثية. وكان تنوّع النصوص في مجموعة ويلكم العربية واضحاً أيضاً في المخطوطات الكرشوني ولكن على نطاق أضيق، فظهرت في المخطوطات مواضيع مختلفة مثل علم الفراسة والطبّ والفلك واللاهوت المسيحي.

قبل كتابة هذه المقالة بشهر، قمت بباقي الفهرسة الرقمية لمخطوطات ويلكم العربية، التي ستُعرض على موقع مكتبة ويلكم الجديد. إنني أعتبر وجود هذه المجموعة المعقَّدة الغنية دليلاً على التنوّع الثقافي والفكري واللغوي والديني الذي تميّز به العالم العربي خلال الحقبة الحديثة المبكّرة. كما هو الحال دائماً، يوجد الكثير من الجوانب والقصص التاريخية عن حياة هذه المخطوطات لاستكشافها في المستقبل. وهكذا نرى وندرك أنّ حرفة الفهرسة ما هي إلا رحلة لا تنتهي.

--

--